مواكبة لملحمة الصمود في غزة.. يقدم هذا المقال خبرة التصدي للاحتلال الصليبي للقدس وأكنافها، فيصف المشهد العام الذي أنجح هذا الاختراق الضخم للمنطقة، ويروي قصة التحرر منه التي توارثتها الأجيال قرنين كاملين
لقد أنقذتم"المسجد الأقصى الذي.. هو أولى القبلتين وثاني المسجدين وثالث الحرمين..
ثم امتد الأثر الزنكي مع الأيوبيين الذين استنبتوا جذور هذا المشروع في مصر ضمن أخطر عملية تحول تاريخي، وفي أيامهم تمت إعادة الاعتبار إلى الأقصى باعتباره"ثالث الحرمين الشريفين"؛ وهذا يعني تحصين قضية القدس في قلوب المسلمين بالعناية الروحية والدينية البالغة. ورغم ما شهدته معركة التحرير من نكسات وتجدد لها من عثرات؛ فإنها واصلت المسير بزخم معتبر حتى تسلمت دولة المماليك رايتها، فبنى قادتها على الخطة الكبرى المتسلسلة وصولا بها إلى الحسم الكلي للصراع.
أما مصر فكانت حينها تخضع لحكم الخلفاء الفاطميين الذين كانت مصائرهم تتجه ليكونوا -مثل نظرائهم العباسيين- ألعوبة في أيدي من عُرفوا لاحقا بـ"الوزراء العظام"، وهو ما أطمع السلاجقة في انتزاع الشام منهم قبل أن يتمكن الوزير الفاطمي القوي الأفضل الجَمَالي الأرمني من استعادة السيطرة على فلسطين والقدس الشريف سنة 491هـ/1098م؛ أي قبل وصول الحملة الصليبية الأولى بعام واحد.
"عليكم أن تسارعوا لمد يد العون لإخوانكم القاطنين في المشرق..، إن الأتراك قد هاجموهم كما يعلم الكثيرون منكم، وتقدموا داخل الأراضي الرومانية إلى أن وصلوا إلى ذلك الجزء من البحر المتوسط..
صحيح أن مشروع هذه المقاومة لم يكن متناغمًا أو وفق تنسيق محدد حتى ظهور ولاة الموصل الأقوياء مثل مودود بن ألتونتكين منذ سنة 503هـ/1109م، ثم خليفته آقْسُنْقُر البُرْسُقي منذ عام 507هـ/1113م، ثم عماد الدين زنكي ؛ لكن الواقع هو أن مشروع المقاومة كان مشتعلا منذ حط الصليبيون رحالهم ببلاد الشام، وتحديدا منذ سنة 493هـ/1100م كما سنرى تاليا.
كان أخطر معاقل الصليبيين القريبة من منطقة الدانشمنديين هو إمارة أنطاكية بقيادة بوهيمند الأول الذي تسميه المصادر الإسلامية"بيمُند"، وكان يمنّي نفسه بتوسيع إمارته بضم شمالي بلاد الشام شاملا حلب وأعزاز، وبدأت هذه الخطة سنة 493هـ/1100م حين"خرج بيمند ملك الإفرنج صاحب أنطاكية إلى حصن أفامية ونزل عليه"؛ طبقا لابن القلانسي في ‘تاريخ دمشق‘.
يؤكد المؤرخون اللاتينيون صحة هذه الأرقام، ويعتبر بعض المؤرخين أن هزيمة ميرسيفان -أو ميرزفوم- تلك في شمال الأناضول بمثابة حملة صليبية"ثانية" تجاهل المؤرخون أهميتها، ولم ينتبهوا لقوة التركمان المسلمين الدانشمنديين فيها.
فقد عُرف رضوان -بشكل عام- بانتهاجه سياسة متخاذلة وانتهازية مراوغة يخبرنا ابن الأثير عن بعض جوانبها قائلا:"كانت أمور رضوان غير محمودة.. وكان يستعين بالباطنية في كثير من أموره لقلة دينه"!! كما اشتهر بعلاقته الخانعة مع الصليبيين، ومن ذلك أنه كثيرا ما"كتب إلى طنكري صاحب أنطاكية.. وطلب منه النصرة" لكسب صراعاته مع جيرانه من الأمراء الأتراك.
وقد عبر المؤرخ ابن الأثير -في كتابه ‘الكامل‘- ببراعته المعهودة عن العلاقة بين نجاح الغزو الصليبي والصراع بين الملوك المسلمين؛ فقال:"واختلف السلاطين.. فتمكن الفرنج من البلاد"!! وقال أيضا -راصدا نتائج ذلك علىحينها- إنه"لمّا استطال الفرنج..
وقد خلَفَ كرابُغا الأميرُ جَكرمِش التركي لذي لم يمنعه صراعه الدامي مع إمارة الأراتقة التركمان -في ديار بكر وشمالي الجزيرة الفراتية- بزعامة سُقمان بن أرْتَق من التحالف معه لمواجهة الصليبيين في الرُّها وأنطاكية؛ فحين أرادوا احتلال حرّان "أرسل كل منهما إلى صاحبه يدعوه إلى الاجتماع لتلافي أمر حران، ويُعْلمه أنه قد بذل نفسه للهِ تعالى وثوابِه"؛ حسب ابن الأثير.
وفي عام 503هـ/1109م أمر السلطان محمـد بن ملكشاه كلا من أمير الموصل مودود وأمير أرمينية سُقمان القطبي وأمير ديار بكر إيلغازي بن أرْتَق "بالمسير في العساكر إلى جهاد الإفرنج وحماية بلاد الموصل..، واجتمع المسلمون في عدد لا يقوم بلقائه جميع الإفرنج. واتفقت الآراء على افتتاح الجهاد بقصد الرُّها ومضايقتها إلى أن يسهل الله افتتاحها بحكم حصانتها ومنعتها"، على ما يذكره ابن القلانسي في ‘تاريخ دمشق‘.
جاء اعتلاء زنكي كرسي ولاية الموصل مدعوما بنجاحه في الاضطلاع بمهمات"ولاية بغداد وشرطتها" حين تولاها سنة 521هـ/1127م، وأيضا بتزكية نالها من كبار قضاة وعلماء الموصل، ومن الوزير السلجوقي ببغداد أنوشروان بن خالد القاشاني "لحاجة الناس إلى من يقوم بإزاء الفرنج"؛ حسب الذهبي. ويلخص لنا الذهبي -في ‘تاريخ الإسلام‘- ذلك الزخم الجهادي الذي أحدثه زنكي بقوله إنه"استولى على البلاد وقوي أمره..، وترقت به الحال إلى أن ملك الموصل وحلب وحماة وحمص وبعلبك، ومدائن كثيرة يطول تعدادها..، واسترجع عدة حصون من الفرنج مثل كفرطاب والمعرة والرها..؛ وكانت البلاد خرابا من الظلم ومجاورة الفرنج فعمرها..؛ حتى إنه لا ينقضي عليه عام إلا وهو يفتح من بلادهم "!! أما ابن الأثير فيجزم بأنه"لولا أن الله تعالى منَّ على المسلمين بملك أتابك [زنكي] ببلاد الشام لملكها الفرنج..
كان فتح الرها خاتمة أمجاد عماد زنكي إذْ لم يعمّر بعده كثيرا؛ ويخبرنا ابن الأثير -في ‘الكامل‘- بأنه في ليلة 16 ربيع الآخر سنة 541هـ/1146م، وبينما كان زنكي يستعد لفتح قلعة جَعْبر على الفرات؛ تعرض لهجوم فـ"قتله جماعة من مماليكه ليلاً غِيلةً وهربوا إلى قلعة جعبر" التي كان يحكمها غريمه الأمير علي بن مالك العقيلي .
وقد بلغ من نكايته في الصليبيين أنه تكرر وقوع عدد من ملوكهم في أسره لأول مرة منذ بدأ الصراع؛ فقد حدث مرة أنه"غزا حصن إنِّب فقصده الإبرنس متملك أنطاكية وكان من أبطال العدو وشياطينهم، فرحل عنها [نور الدين] ولقيهم دونها، فكسرهم وقتله وثلاثة آلاف فرنجي كانوا معه، وبقي ابنه صغيرا مع أمه بأنطاكية وتزوجت بإبرنس آخر، فخرج نور الدين في بعض غزواته فأسر الإبرنس الثاني، وتملك أنطاكية ابن الإبرنس الأول وهو بيمنت ، ووقع في أسره في نوبة حارم وباعه نفسَه بمال عظيم أنفقه [نور الدين] في الجهاد"؛ طبقا...
ويُجْمل لنا ابن عساكر جهود نور الدين في هذا الميدان بقوله إنه لما تولى السلطة"أظهر بحلب السُّنّة.. حتى أقام شعار الدين..، ونشر فيها مذاهب أهل السنة الأربعة.. وبنى بها المدارس، ووقف الأوقاف، وأظهر فيها العدل والإنصاف". وكذا فعل في دمشق حين ضمها"فضبط أمورها وحصّن سورها، وبنى بها المدارس والمساجد وأفاض على أهلها الفوائد، وأصلح طرقها ووسّع أسواقها..، ومنع ما كان يؤخذ منهم من المغارم.. وغير ذلك من المظالم" التي أحدثها نظام البوريين.
ويبدو أن صلاح الدين كان مترددا بشأن الانخراط في تطبيق الخطة التي رسمها نور الدين لإنقاذ مصر، خاصة أنه جرّب هذا المسعى مرتين من قبلُ؛ ولذلك يروي لنا كاتبه ومؤلف سيرته القاضي ابن شداد الموصلي -في ‘النوادر السلطانية‘- نقلا عن صلاح الدين شفاهةً:"قال [لي] نور الدين: لا بد من مسيرك مع عمك [أسد الدين]، فشكوتُ الضائقة ، فأعطاني ما تجهزتُ به، فكأنما أساق إلى الموت"!!
المملكة العربية السعودية أحدث الأخبار, المملكة العربية السعودية عناوين
Similar News:يمكنك أيضًا قراءة قصص إخبارية مشابهة لهذه التي قمنا بجمعها من مصادر إخبارية أخرى.
حول العالم في صورة: قطعة من جهنم في هذا البلد الأوروبيحول العالم في صورة: قطعة من جهنم في هذا البلد الأوروبي.
اقرأ أكثر »
هذا الفيديو مصوّر قبل أسابيع ولا شأن له بالمواجهات الأخيرة بين إسرائيل والفلسطينيين في غزّةفي ظلّ التصعيد الأخير منذ يوم الجمعة بين إسرائيل والفلسطينيين في قطاع غزّة المُحاصر، تداولت صفحات وحسابات على مواقع التواصل الاجتماعي مقطع فيديو قيل إنّه يُصوّر اشتعال النار في مبنى أصابه قصف فلسطينيّ في مستوطنة سديروت المجاورة للقطاع. إلا أن هذا الفيديو لا شأن له بموجة التصعيد الحالية، بل هو منشور على مواقع وصفحات إسرائيلية على أنه لحريق في مبنى في مدينة هرتسليا الساحلية قبل أسابيع من اندلاع هذه المواجهات.
اقرأ أكثر »
'فوربس': الاقتصاد السعودي ينتعش هذا العام ليقترب من تريليون دولار'فوربس': الاقتصاد السعودي ينتعش هذا العام ليقترب من تريليون دولار.
اقرأ أكثر »
الدرون الروسية 'سيريوس' ستقلع هذا العام.. ما قدراتها؟ذكرت وكالة 'نوفوستي' الروسية للأنباء، الثلاثاء، أن الطائرة الروسية المسيرة 'سيريوس' ستقوم بأول رحلة لها في وقت لاحق من هذا العام.
اقرأ أكثر »